خامساً: المزمور الثاني والعشرون
وفيه: " إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي؟ عن كلام زفيري؟ إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوّ لي، وأنتَ القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل، عليك اتكل آباؤنا، اتكلوا فنجيتهم، إليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يَخزَوْا.
أما أنا فدودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، ومحتقرُ الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه، ويُنغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه.
لينقذه، لأنه سُرّ به، لأنك أنت جذبتني من البطن، جعلتني مطمئناً على ثديي أمي، عليك ألقيت من الرحم، من بطن أمي، أنت إلهي، لا تتباعد عني لأن الضيق قريب، لأنه لا معين، أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علىّ أفواههم، كأسد مفترس مزمجر، كالماء انسكبتُ،
انفصلتْ كل عظامي، صار قلبي كالشمع، قد ذاب في وسط أمعائي، يبستْ مثل شَقفَة قوتي، ولصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت تضعني، لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أُحصى كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فّي، يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون" (المزمور 22/1-18).
ويُجمع النصارى على أن هذا المزمور بنوءة عن المسيح، فقد أحالت عليه الأناجيل يقول متى: " ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة " ( متى 27/35 ) ومثله في ( يوحنا 19/24 )، والإحالة إلى هذا المزمور في قوله: " يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون ".
كما أن الرواية التي في المزمور توافق رواية الصلب في صراخ المصلوب: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ( متى 27/46 )، ( مرقس 15/34 ).
ويوافق نص المزمور ما جاء في الأناجيل في بيان حال المصلوب " كان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك، إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده " ( متى 27/39 - 43 ). فهذا يشبه ما جاء في هذا المزمور " محتقر الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي.. وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب، فلينجه".
كما يوافق النص الأناجيلَ كرّة أخرى في قوله: " جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أحصي على عظامي "، فهي تدل على أخذ المصلوب يوم سُمرت يداه ورجلاه على الصليب.
لهذا كله كان إجماع النصارى على أن هذا المزمور نبوءة عن حادثة الصلب، خاصة أن داود لم يمت مصلوباً، فهو إذن يتحدث عن غيره.
والحق أن المزمور نبوءة عن المصلوب، لكنه ليس عيسى، بل عن الخائن يهوذا الأسخريوطي، فنراه وهو جزع، يائس، يصرخ: " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، فالمزمور نبوءة عن المصلوب اليائس الذي يدعو فلا يستجاب له "إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هُدوّ لي.. عليَك اتكل آباؤنا فنجيتَهم، عليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يخزوا. أما أنا فدودة لا إنسان... ".
ويصف المزمور المصلوب بأنه " دودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، محتقَرُ الشعب " فمَن هو هذا اليائس الموصوف بأنه دودة، وأنه عار عند البشر، وأنه محتقر، وأنه لا يستجاب له؟
إنه يهوذا، حيث جعلتْه خستهُ وخيانتهُ كالدودة، وأصبح عاراً على البشر، كلَّ البشر، المسلمين واليهود والنصارى، بل وحتى البوذيين وغيرهم، لأنه خائن، والخيانة خسة وعار عند كل أحد، يحتقره الشعب، ولا يستجيب الله دعاءه.
والعجب لمن يصر على أن النبوءة عن المسيح، إذ كيف يوصف المسيح بالعار، وهو مجد وفخر للبشر؛ بل العار هو يهوذا، ونلحظ أن النص يصفه بالعار ليس فقط عند جلاديه وأعدائه، بل عند البشر جميعاً، في كل أجيالهم، وجميع مِللهم، ولا يمكن أن يكون المسيح كذلك، بل تفخر البشرية أن فيها مثل هذا الرجل العظيم الذي اصطفاه الله برسالته ووحيه.
كما نلحظ أن كلمة "عار" تلحق بالشخص نفسه، لا الصلب الواقع عليه، فهو العار، وهو الدودة، وحاشا للمسيح العظيم أن يكون دودة أو عاراً، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لقد مجد الله المسيح فلم يكن عاراً ، بل كان فخراً وعزاً، وإن تاهت عنه عيون البعض، فرأوا مجده عاراً، ونجاته خزياً ، لقد غفلوا عن النبوءة القائلة: "استجب لي يا إله برّي، في الضيق رحبت لي، تراءف عليّ واسمع صلاتي، يا بني البشر، حتى متى يكون مجدي عاراً؟ حتى متى تحبون الباطل، وتبتغون الكذب؟ سلاه، فاعلموا أن الرب قد ميّز تقيّه، الرب يسمع عندما أدعوه" (المزمور 4/1-3)، فخلاصه عليه السلام هو المجد الذي لم يؤمن به النصارى، واعتبروه عليه السلام لعنة وعاراً، لكنه كذب وباطل، فقد سمع الله دعاء تقيه ومسيحه.
كما لا يقبل بحال أن يوصف المسيح بأنه دودة، والعجب من أولئك الذين يدعون ألوهيته كيف يستسيغون تسميته بدودة، بل الدودة هو الخائن الحقير يهوذا.
وأما وصف المصلوب بأنه " محتقر الشعب" فهو وصف ينطبق على المصلوب وكلمة "الشعب" تشير إلى اليهود وأولئك الذين حضروا الصلب، وكانوا يحتقرون المصلوب.
سادساً: المزمور التاسع والستون
وهذا المزمور نبوءة أخرى تتناول حادثة الصلب، وهو نبوءة متحدثة عن المصلوب، فقد اقتبس منه كتاب الأناجيل، ورأوا فيه نبوءة عن المصلوب، تحققت – حسب رأيهم – في المسيح حين صلب، يقول يوحنا: "وكان إناء موضوعاً مملوءاً خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا، وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل" (يوحنا 19/29-30)، أي كملت النبوءات والكتب، ومقصده ما جاء في الفقرة الحادية والعشرين من هذا المزمور، وفيها: " ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ "، فالمزمور نبوءة عن المصلوب بشهادة يوحنا، فمن تراه يكون المصلوب: المسيح البار أم يهوذا الخائن؟
السفر وحده كفيل بالإجابة عن السؤال، وفيه يهتف المصلوب ويصرخ بيأس يرجو رحمة الله الذي لم يستجب له، فيقول: "خلصني يا الله، لأن المياه قد دخلت إلى نفسي، غرقت في حمأة عميقة وليس مقر، دخلت إلى أعماق المياه، والسيل غمرني، تعبت من صراخي، يبس حلقي،كلّت عيناي من انتظار إلهي، أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب، اعتزّ مستهلكيّ أعدائي ظلماً،حينئذ رددت الذي لم أخطفه....".
ويذكرنا المزمور بصراخ المصلوب اليائس "إلهي إلهي لماذا تركتني"، وقد يبس حلقه وكلت عيناه، وما من مجيب، ويعجب المصلوب لحال أولئك الذين أبغضوه وعلقوه بلا سبب، فقد جاء ليدلهم على المسيح فإذا به يؤخذ بدلاً عنه، من غير أن يصنع سبباً واحداً يستحق بغضهم له وصلبهم إياه.
لكنه يعلم أن سبب ما حاق به هو حماقته وذنوبه والعار، عار الخيانة الذي غطاه، فيقول: " يا الله أنت عرفت حماقتي، وذنوبي عنك لم تخف، غطى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي، وغريباً عند بني أمي،... أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي، قدامك جميع مضايقي، العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ" ( المزمور 69/5 - 21 )، فمن هو صاحب الحماقة والذنوب والعار والخزي والخجل، من هو ذاك الذي كسر العار قلبه، إنه ذاك الذي سقوه الخل وهو على الصليب، هل يعقل أن نقول : إنه المسيح؟ لا، إنه يهوذا الخائن.
لكنه لا ييأس فيواصل الصراخ والاستجداء طالباً من الله الخلاص، مستعيناً فقط برحمة الله التي تسع كل شيء، ولكن بلا فائدة "لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيّريك وقعت عليّ، وأبكيت بصوم نفسي، فصار ذلك عاراً عليّ، جعلت لباسي مسحاً، وصرت لهم مثلاً، يتكلم فيّ، الجالسون في الباب وأغاني شرّابي المسكر، أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك، نجني من الطين، فلا أغرق نجني من مبغضيّ، ومن أعماق المياه، لا يغمرني سيل المياه، ولا يبتلعني العمق، ولا تطبق الهاوية عليّ فاها، استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ، ولا تحجب وجهك عن عبدك، لأن لي ضيقاً، استجب لي سريعاً، اقترب إلى نفسي، فكها، بسبب أعدائي افدني" (المزمور 69/ 9-18).
وتأتيه نتيجة دعائه وخيانته، إذ يقول السفر: "لتصر مائدتهم قدامَهم فخاً، وللآمنين شركاً، لتظلم عيونهم عن البصر، وقلقل متونهم دائماً، صبّ عليهم سخطك، وليدركهم حمو غضبك، لتصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكن، لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون، اجعل إثماً على إثمهم، ولا يدخلوا في برِّك، ليمحَوا من سفر الأحياء، ومع الصديقين لا يكتبوا" (المزمور 69/22-28).
فمن تراه يكون هذا الهالك الذي صارت مائدته فخاً وشركاً للآمنين، لكن عميت عيونهم عن البصر، فلم تبصر الصديق، وهو ينجو، لقد باء الخائن بالإثم، وأصبحت داره خراباً، ومحي اسمه من سفر الأحياء، فمات ولم يستجب له، كما حذف من قائمة الصديقين، فكتب مع الأشرار الهالكين، فمن تراه يكون؟ إنه يستحيل أن يكون هو المسيح.
ثم يعود المزمور ليحدثنا عن المسيح الذي نجاه الله، فيقول عن نفسه: " أما أنا فمسكين وكئيب، خلاصك يا الله فليرفعني، اسبح اسم الله بتسبيح، وأعظمه بحمد، فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف، يرى ذلك الودعاء، فيفرحون، وتحيا قلوبكم يا طالبي الله، لأن الرب سامع للمساكين، ولا يحتقر أسراه" (المزمور 69/ 29-33)، لقد سمع الله دعاءه، وخلاص الله رفعه ونجاه، ففرح بنجاته المؤمنون، فالرب يسمع دعاء المساكين، لذا فهو يستحق المزيد من الحمد والتسبيح.
وقد يشكل على القارئ الكريم قوله: " أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك.. استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ"، فيرى خطأً أن هذا السائل المستغيث هو المسيح، وهذا فهم خاطئ، إذ السائل هنا يستغيث مستشفعاً بما سبق من صلوات له زمن صحبته للمسيح، ويشفعها بطلب الرحمات من الله الرحيم كثير الرحمات، وهو الحبل الوحيد الذي يتشبث به الغريق ، ولو كان خائناً فاجراً.
أما المسيح عليه الصلاة والسلام فكان في دعائه المستجاب يستشفع بكماله وصلاحه وعبادته لله، ومنه قوله: "اقض لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيّ" (المزمور 7/
، ومثله في المزمور الواحد والأربعين " أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 12).
وقد أوضحته المزامير في مواضع، منها قوله: "أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/13)، وفي المزمور الواحد والتسعين "أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده " (المزمور 91/14)، وكذا في المزمور العشرين اعتمد المسيح واتكل على صالح عمله وبره لله " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك" (المزمور 20/3).
سابعاً: المزمور الخامس والثلاثون
وهذا المزمور شاهد آخر يتحدث عن المسيح، فقد اقتبس منه يوحنا في إنجيله، حين قال: "وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب" (يوحنا 15/24-25)، وهذا الاقتباس من الفقرة السابعة من المزمور ، وفيها: " لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم "، فهو متحدث عن المسيح باتفاق النصارى، وبشهادة يوحنا.
فهل كان المزمور نبوءة عن المسيح المصلوب، أم كان بشارة بنجاته عليه الصلاة والسلام؟
يقول المزمور متحدثاً عن دعاء مؤمن محتاج إلى رعاية ربه وحمايته له من أعدائه، فيقول: "خاصِمْ يا رب مخاصِمي، قاتِلْ مقاتلي، أمسك مجناً وترساً، وانهض إلى معونتي، وأشرِع رمحاً، وصُد تلقاء مطارديّ، قل لنفسي: خلاصكِ أنا" (المزمور 35/1-3).
ويطلب ذلكم الداعي المؤمن من ربه أن يقع عدوه في الشبكة التي نصبها، ويطلب من الله أن يؤيده بالملائكة، فيقول: " ليخز وليخجل الذين يطلبون نفسي، ليرتد إلى الوراء، ويخجل المتفكرون بإساءتي، ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرُهم، ليكن طريقهم ظلاماً وزلقاً، وملاكُ الرب طاردهم، لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم، بلا سبب حفروا لنفسي، لتأته التهلكة وهو لا يعلم، ولتنشب به الشبكة التي أخفاها، وفي التهلكة نفسها ليقع " (المزمور 35/4 -8 )، لقد طلب من الله طلبة في شأن عدوه، طلب منه أن يقتله بشبكته التي نصبها، أي في ذات المؤامرة التي سعى فيها، فهل استجاب الله لوليه أم خيبه؟
السفر يجيب بوضوح أن الله استجاب له ، ويبتهج بخلاص المسيح ونجاته " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه؟ والفقير والبائس من سالبه؟ شهود زور يقومون، وعما لم أعلم يسألونني، يجازونني عن الخير شراً، ثكلاً لنفسي، أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13).
ويعود المزمور للحديث عن أعدائه الذين عادوا بالخيبة، فيقول:" لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً، ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب، لأنهم لا يتكلمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يفتكرون بكلام مكر، فغروا عليّ أفواههم، قالوا: هه هه، قد رأت أعيننا، قد رأيتَ يا ربُّ، لا تسكت يا سيد، لا تبتعد عني، استيقظ، وانتبه إلى حكمي يا الهي وسيدي، إلى دعواي، اقض لي حسب عدلك يا رب.
إلهي فلا يشمتوا بي، لا يقولوا في قلوبهم: هه شهوتنا، لا يقولوا: قد ابتلعناه، ليخز وليخجل معاً الفرحون بمصيبتي، ليلبس الخزي والخجل المتعظمون عليّ، ليهتف ويفرح المبتغون حقي، وليقولوا دائماً: ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده، ولساني يلهج بعدلِك، اليوم كله بحمدك" (المزمور 35/19-28)، لقد كان دعاء حاراً من العبد المؤمن ، وهو يطلب من الله العادل أن يخزي أعداءه الذين أبغضوه بلا سبب.
وقد استجاب الله له " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكينَ ممن هو أقوى منه؟ والفقيرَ والبائس من سالبه؟ ...أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13)، لقد شفع له عند ربه صلاته وصيامه ولباسه للمسوح عبادة لله وتذللاً.
ثامناً : المزمور الواحد والأربعون :
وهذا المزمور أحد الأسفار التي تحدثت عن المسيح، والذي اقتبس منه يوحنا في ثنايا حديثه عن يهوذا فقال متنبئاً بخيانته: "إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه، لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم، لكن ليتم الكتاب، الذي يأكل معي الخبز رفع عليّ عقبه" (يوحنا 13/17-18)، فقد اقتبس من المزمور الواحد والأربعين الفقرة التاسعة وفيها: "رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه"، فالمزمور نبوءة عن المسيح بدليل قول المسيح: "لكن ليتم الكتاب".
ودعونا نتأمل المزمور من أوله، حيث يتنبأ المزمور بنجاة المسيح في يوم ضيقه، فإن الرب حفظه ولم يسلمه لمرام أعدائه، فيقول: "طوبى للذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب، الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض، ولا يسلمه إلى مرام أعدائه، الرب يعضده وهو على فراش الضعف" (المزمور 41/1-3).
ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح، وعن الخائن الذي وثق به، فيقول: "أعدائي يتقاولون عليّ بشر، متى يموت ويبيد اسمه، وإن دخل ليراني يتكلم بالكذب، قلبه يجمع لنفسه إثماً، يخرج في الخارج يتكلم، كل مبغضيّ يتناجون معاً عليّ، عليّ تفكروا بأذيتي، يقولون: أمر رديء قد انسكب عليه، حيث اضطجع لا يعود يقوم، أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به، آكل خبزي، رفع عليّ عقبه" (المزمور 41/5-9)، لقد كان تلميذه يهوذا، رجل سلامته أحد المتآمرين عليه.
لكن كمال المسيح وحسن طاعته لله نجياه من كيد عدوه، وأبطل مؤامرة يهوذا، فيقول المزمور: " أما أنت يا رب فارحمني، وأقمني فأجازيهم، بهذا علمت أنك سررت بي، إنه لم يهتف عليّ عدوّي، أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 10-13) لقد سُر به ربه، ولم يهتف عليه عدوه، بل بكماله وصلاحه كتبت له النجاة.
تاسعاً : المزمور الرابع والثلاثون
وهذا المزمور أيضاً متحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أحال عليه كتاب الأناجيل، واعتبروه نبوءة عن المسيح، ففي الفقرة العشرين منه يقول: " يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر"، وهي العبارة التي اقتبسها يوحنا، واعتبرها نبوءة عن المسيح، فقال: "لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل: عظم منه لا يكسر" (يوحنا 19/36).
فبماذا تنبأ المزمور، هل كان يتحدث عن المسيح المصلوب الذي لم يستجب الله دعاءه، أم عن المسيح الناجي الذي لا يكسر منه عظم، فيما تحيق المؤامرة بأعدائه الأشرار، يقول المزمور متحدثاً عن دعاء المسيح الطويل في البستان، وعن استجابة الله له، وعن المدد الذي أمده من الملائكة: "طلبت إلى الرب فاستجاب لي، ومن كل مخاوفي أنقذني، نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل، هذا المسكين صرخ، والرب استمعه، ومن كل ضيقاته خلصه، ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه، اتقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عوز لمتقيه، الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير" (المزمور 34/1-10).
ويمضي السفر مؤكداً استجابة الله للمسيح، وسلامة جسده، وينتقل للحديث عن أعدائه الذين يصب عليهم غضبه، فيقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر، الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون، الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22)، فلقد مات الشرير بشره، فيما سلمت جميع عظام المسيح من أن تكسر، وهو ما لم يتحقق للمصلوب الذي كسرت المسامير - ولا ريب - بعض عظام يديه ورجليه " ثقبوا يدي ورجلي " (المزمور 22/16)، فالمسيح الناجي هو فقط من حقق هذه النبوءة .
لقد أنقذ الله المسيح من كل الشدائد، لأنه اتكل عليه "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر.. وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22).
وعاقب الله مبغضي المسيح، وقطع من الأرض ذكرهم، وأماتهم بشرِّهم الذي صنعوه " وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم..الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون" (المزمور 34/16-21).
عاشراً : المزمور الواحد والتسعون
ويتقدم الشيطان إلى المسيح يختبره ويذكره بنبوءة المزامير عنه، "وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: إنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك" (متى 4/6-7)، فالمسيح هو الذي يوصي فيه اللهُ ملائكتَه، فيحملونه ولا يمسه سوء، حتى الحجر لا يصيبه، لأن الملائكة حملته
وهذه النبوءة التي أقرها المسيح ووافق عليها، اقتبسها الشيطان من المزمور الواحد والتسعين، من الفقرة الحادية عشرة، حيث جاء فيها: " لأنه يوصي ملائكته بك، ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك "، فهي نبوءة عن المسيح، فمتى تحققت هذه النبوءة؟
فالمزمور يتحدث عن المسيح المتكِل على الله والذي ينجيه من مؤامرة الصياد، ويستجيب له، ويرفعه للسماء، من غير أن يمسه شر أو أذى، وقبل أن يتمكن أعداؤه منه تحمله الملائكة، ويعطى حياة طويلة، بدلاً من الضيق، يقول المزمور: " إلهي فاتكل عليه، لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن الوباء الخطر، بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي، ترس ومجن حقه، لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير...
لأنك قلت: يا رب، أنت ملجأي، جعلتُ العلا مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك، على الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس، لأنه تعلق بي أنجيه، أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه، وأريه خلاصي " (المزمور 91/2 - 16)، وفي المزمور السابع والخمسين " أصرخ إلى الله العلي، إلى الله المحامي عني، يرسل من السماء ويخلصني، عيّر الذي يتهممني... هيأوا شبكة لخطواتي، انحنت نفسي، حفروا قدامي حفرة سقطوا في وسطها " (المزمور 57/2-6).
وهكذا فالمزمور الواحد والتسعون نبوءة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، واضحة في استجابة الله للمسيح، ورفعه للسماء على يد الملائكة قبل أن تصيبه يد أعدائه بأدنى شر، فلم يضرب ولم يبصق في وجهه، ولم يصلب، ولم يمت، عليه صلوات الله وسلامه.
حادي عشر : المزمور التاسع بعد المائة ، وفيه: " يا إله تسبيحي، لا تسكت ؛ لأنه قد انفتح علّى فم الشرير، وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بغض، أحاطوا بي، وقاتلوني بلا سبب. بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلوة. وضعوا علّى شراً بدل خير، وبُغضاً بدل حبي.
فأقم أنت عليه شريراً، وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنباً، وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر. ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة. لِيَتِهْ بنَوُه تَيَهَاناً ويستعطوا. ويلتمسوا خبزاً من خِربهم. ليصطد المرابي كل ما له، ولينهب الغرباء تعبه. لا يكن له باسط رحمة، ولا يكن مُتَرَأّفُ على يتاماه.
لتنقرض ذريته. في الجيل القادم ليمح اسمهم. ليذكر إثم آبائه لدى الرب، ولا تمح خطية أمه. لتكن أمام الرب دائماً. وليقرض من الأرض ذِكرهم. من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة، بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً، والمنسحق القلب ليميته.
وأحب اللعنة، فأتته، ولم يسر بالبركة، فتباعدت عنه. ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً. هذه أجرة مبغضي من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي.
أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك. لأن رحمتك طيبة نجني، فإني فقير، ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي. كظل عند ميله ذهبت. انتفضت كجرادة. ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل عن سمن. وأنا صرت عاراً عندهم. ينظرون إليّ وينغضون رؤوسهم.
أعني يا رب، إلهي. خلصني حسب رحمتك. وليعلموا أن هذه هي يدك، أنت يا رب فعلت هذا. أما هم فيلعنون. وأما أنت فتبارك. قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح. ليلبس خصمائي خجلاً وليتعطفوا بخزيهم كالرداء.
أحمد الرب جداً بفمي، وفي وسط كثيرين أسبحه، لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلصه من القاضين على نفسه" ( المزمور 109/1 - 31 )
وهذا المزمور أيضاً يراه النصارى على علاقة بقصة الصلب، وأن المقصود في بعضه يهوذا، وهو قوله: " ووظيفته ليأخذها آخر، ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة.. ويلتمسوا خبزاً من خربهم " وقد أحال عليه كاتب "أعمال الرسل" وهو يتحدث على لسان بطرس حين قال متحدثاً عن يهوذا: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن، وليأخذ وظيفته آخر " ( أعمال 1/15 - 26 ).
وقد انتخب الحواريون بدلاً من يهوذا تنفيذاً لهذا الأمر يوسف ومتياس، وأقرعوا بينهما، فوقعت القرعة علي متياس، فحسبوه مكملاً للأحد عشر رسولاً. ( انظر أعمال 1/23 - 26 ).
إذاً فالنص في هذا المزمور متحدث عن يهوذا ولا ريب، وهذا صحيح، فهو يتحدث عن محاكمته " وإذا حوكم فليخرج مذنباً "، فمتى حوكم يهوذا إذا لم يكن هو المصلوب؟ والنص يتحدث عن محاكمته، وعن نتيجة محاكمته " لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر ".
كما يتحدث المزمور عن وقوفه على الصليب، وعن يمينه شيطان، ذاك الذي كان يستهزأ به، (لوقا 23/39-43)، فمتى وقف شيطان عن يمين يهوذا، ومتى حوكم؟ إن لم يكن ذلك في تلك الواقعة التي تجلى فيها غضب الله عليه.
كما يتحدث المزمور عن ثوب اللعنة الذي لبسه يهوذا على الصليب " ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً، هذه أجرة مبغضيّ من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي"، لقد كانت اللعنة أجرته على عمله، فقد علق على الصليب، وكل معلق ملعون، كما في سفر التثنية "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل، وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله" (التثنية 21/22-23).
ونص المزمور - كما رأينا - يتحدث في شطرين على لسان المسيح.
ففي الشطر الأول: يتحدث عن الأشرار الذين قاتلوه بلا سبب، ووضعوا عليه الشر بدل الخير.
وفي الشطر الثاني: يستمطر الداعي نفسه اللعنات على هذا الشرير، ويسأل الله الخلاص حسب رحمته " أعِني يا رب، إلهي، خلصني حسب رحمتك.. " ويفرح المسيح لخلاصه " لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلصه من القاضين على نفسه".