بسم الله الرحمن الرحيم:
يحفظ التلاميذ قصار السور في مدارسهم،ويتلوها المصلون في صلواتهم، ويتعبد بها الناس في مساجدهم ، غير أن هذه السور رغم قصرها الشديد ،وإيجازها الوفير مشحونة بالعبر والفوائد ، وبعض ما فيها من ألفاظ قد يخفى معناها على كثير من الناس، حتى المشتغلين باللغة والمثقفين منهم، فيسأل الطبيب العالم مثلا عن سورة الفلق:ما معنى الفلق؟أو ما معنى من شر غاسق إذا وقب؟،فأي شيء هو الغاسق؟،ثم ما النفاثات في العقد؟
وإذا كانت هذه التساؤلات وما شاكلها تجري على ألسنة المثقفين ،وقد يكون السبب ضآلة محصولهم اللغوي – رغم كثرة ترددها أمامهم وقرعها لأسماعهم -،فما بال من لم ينل قسطا من التعلم بعد،أو من هو أمي لا يعرف القراءة والكتابة،ولكنه يقرأ القرآن بقلب مليء بالخشوع فيحس بحلاوته ،ويطرب لجمال نغماته،دون أن يدرك معاني ألفاظه.
وقد يشعر قارئ القرآن أو المنصت له بهزة تكتنف أوصاله،فمرة يقشعر بها بدنه وأخرى ينشرح لها فؤاده حين تنبثق أعذب أنغامه وأرقها،أو يسمع رعوده القاصفة...
وعلى هذا وانطلاقا من قوله تعالى:{ورتل القرآن ترتيلا}،أردت أن أضع هذه المحولة في تفسير بعض الظواهر الصوتية التي تبين عن إعجاز واضح في الاتساق الصوتي بين حروف الكلمة القرآنية الواحدة ،والانسجام الراقي بين ألفاظ العبارة من الآية،والتماسك البديع بين الآيات داخل السورة الواحدة ،وما يعقبه من توال معبر عن حلاوة المعاني.
وفي ما يلي بعض الأمثلة عن الإعجاز الصوتي لقصار السور المتبوع ببعض التوضيحات اللغوية المفسرة لتناسق لغة هذه السور: ،لعل هذا الأمر يجعل منها مسلكا يسيرا يتخذه المعلمون فيصلوا بأولادنا إلى بر الأمان،إذ إننا سنكتشف أنها مدخل رئيس لتعلم اللغة العربية الفصيحة بمنطقها السليم ومخارجها الحقيقية. {عسى الله أن يوفقني في ذلك}
1- فاتحة الكتاب:
حوت سورة الفاتحة مئة وثمانية وعشرين حرفا، منها مئة وعشر صوامت دون الحروف المدغمة،وثمانية عشر حرف لين{صائت}،حيث توزعت هذه الأخيرة على كل الآيات تقريبا، وكان الألف أكثرها.
وماثلت الحروف الشفوية الحروف الصائتة كما ، واختفى من بينها حرف الفاء، في حين ظهر من الحروف اللثوية حرفا الضاد والذال فقط، أما الحروف الذلقية فقد سيطرت على أغلب السورة، حيث شكلت ربع الأصوات الصامتة تقريبا،وبرز منها حرف اللام الانحرافي بصفة خاصة،وتقاربت نسبة تواجد الحروف النطعية،متمركزة وسط السورة،أما الحروف الأسلية فلم يرد منها سوى حرفان ،في حين ذكر من الحروف الشجرية ست ياءات ،بينما ظهر الحرفان اللهويان:القاف والكاف بنسبة ضئيلة،وغاب من الحروف الحلقية الخاء،وتوزعت بقية الحروف على المخارج بشكل متعادل تقريبا.
وقد جاءت معظم المقاطع التي تبدأ بها فواتح الآي من النوع المتوسط في الطول{صامت+ صائت+ صامت}،وتميزت بقية المقاطع بطول واضح استدعته الألفاظ الحاوية لمدود ،هذه الأخيرة التي استدعاها مقام تمجيد صفات الله ومقام دعائه.
هذا وسبب حرف النون امتداد الغنة وطغيانها على السورة ما زادها جمالا ،وأضفى عليها نغمات متتالية في الصعود جعلت القارئ يغير المخرج الفموي ويوجه الصوت نحو الخيشوم،الأمر الذي يزيد من امتداد النفس لديه.